هَاجِرْ! أنْتَ لستَ بِشَجرة
ماذا كانت مادتك الدراسية المفضلة؟
الرياضيات، الإنجليزية أو ربما التاريخ؟
مِن الطبيعي أن تتعدد الإجابات من شخص لآخر، لكن من النادر أن تستمع لإجابةٍ مفادُها مادة الجغرافيا.
ليس تقليلاً من شأن هذه المادة التعليمية، و لكن حقيقة الأمر مَن منا يتذكرُ ما درَسهُ حول الإشكالات الاقتصادية في الصين؟ المبيان المناخي…. ؟ مجرد عناوين رئيسية!
ليس الحديث هنا عن وجوبِ تغييرِ التعليم النمطي إلى آخر أكثر حداثة، بل للتأكيد على أن لدروس الجغرافيا دوراً أولياً في تخطيط لائحة الدول التي تَمنَّينا زيارتها ذات يومٍ أو الهجرة إليها .
لائحةَ الدولِ التي ربما شاركنا مع أصدقائنا في تَضمِينها وِجهاتنا المفضلة، إلاَّ أن لكل منا أهدافاً خاصة لرحلةٍ رُسِمَ مَسارُها في اليقظةِ و عُبِرَ في الأحلام أولاًّ.
استجمامُ بدنٍ قضى عاماً شاقاًّ بين العمل و الدراسة ليَستحق راحةً وَ استراحة، استطلاعُ ثقافةٍ أجنبية لمن كان مُلمًّا بإغناءِ معارفِه، أو ربما استحداثُ نفَسٍ جديدٍ لأفكارنا التي تحتاج بين الفِينةِ و الأخرى لتنقيحٍ و ترتيبٍ. كلها أسبابٌ تَجعلُ من السفر غايةً لا تنتهي بانتهاءِ عطلةٍ موسمية تدوم أقصاها عشرين إلى ثلاثين يوماً.
في المقابل، لا تكفي الأيامُ المعدودةُ أشخاصاً تملكتهم رغبةُ سفرٍ طويلٍ اشتعلتْ مع كل سببٍ يتطلبُ تحقيقُه تعجيلَ
تذكرةِ الذهابِ و تأخير الإياب لميعادٍ غير معلومٍ.
تحصيلُ تعليمٍ جيد لمنْ غابَ عنهُ، تحقيقُ أحلامٍ هُدِمت في واقعٍ مُعاش، أو تَرسيخُ خُطوات حياةٍ مهنيَّة مبدعةٍ لمن اضطُرَّ لِكَبحِ شغفِه.
تكفي إضافتُك للجار و المجرور ‘في الوطن’ إلى نهاية كل سببٍ ثَمَّ ذكرُه لتتأكَّد أنَّه رغم تنوُّع الغاياتِ إلاّ أن السبب الرئيسي مُشترك، سبب رئيسي واحدٌ جَعل من تذكرةِ الذهابِ هِجرةً لاَ سفراً.
السنة القادمة،
تلك الشجرةُ التي يتربَّص أبناءُ الوطنِ بجذورِ فرحتِها، تلك الشجرةُ التي رُوِيَت بحبِّنا و آمالنا.
- فكم مِنَّا أَمِلَ أنْ يكونَ لِوطنِه النصيبُ في الانجازِ وَ الإبداعِ على غِرارِ الأوطانِ الأخرى؟
- كم منا أحبَّ لِنَفْسه نجاحاً باهراً على تربةِ بَلَدهِ؟
كما أنَّ لكلِّ شجرةٍ جذعاً طويلاً و آخرَ بعكسِه، كانَ لنا النصيبُ في أقصرِهم، إذْ جرتِ العادةُ لدى كل مواطنٍ أنْ تُتبَع نَشوةُ وطنِيَّته بعد كل إنجازٍ بنَكسةٍ على الوطنِ.
ذلك الإنجازُ الذي ربما لا يتعدى التأهلَ لبطولة رياضية أو توسيعِ طريقٍ وطنية من صيف لآخر…
إلاَّ أنَّ لذة الإنجازِ آيَّا كان تدفعُ بالفردِ إلى البحث عن وطنٍ جديد يدوم فيه الإنجاز إلى حدِّ الشّبع، لتبدأ رحلةُ بحثٍ جُمعَت أمتعتُها بينَ طيَّات الهجرة.
ولي وطن آليت ألاّ أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبَّبَ أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا.
-ابن الرومي
أنت تحصد ما زرعته
كما أنَّ لكل شجرةٍ ثمرةً ناضجةً و أخرى فاسدة، فلِلوطن ابنٌ بارٌّ بوَطنِيته و آخرُ عاقٌّ لَها. و كما يبحثُ كلُّ فلاَّح العِلَّة وَراءَ فسادِ ثمارِه، فالْأوْلَى أن يَنظُر من نَصَّبُوا أنفُسهم أولياءَ على الشعوب إن أتَمُّوا واجباتهم قبل فوات الأوان، حينَ سَيعلم الَّلذين ظلمُوا أي مُنقلب يَنقلبونَ.
تأتي الأحداثُ تواليا على البلادِ و تَشتَّتتِ العبادُ بين مَنِ المظلومُ و منِ الظالمُ، ليتَوَسَّط الوطنُ كَفتيْ هذا الميزان. فإن كانت الأفواهُ و الأقلامُ بالأمسِ اعتبرتِ الوطنَ بمُواطنيه مظلوماً، فقد كُمِّهَت أفواههم و شُلَّت أقلامهم اليومَ و وَجدتِ الوطنَ لقاطنيه سجناً ظالماً.
قد لَا تكونُ محامياً للمظلومِ و لا قاضياً على الظالمِ، إلاَّ أنِّك سَتتيقَّنُ أنَّ الوطنَ لشعبهِ محايدٌ، فإن زَرعتَ فيهِ عدلاً حصدتَ مثلَه و إن كان لك في الظلم ثمارٌ فلَكَ قِطافُها.
الوطن هو المكان الذي نحبه، فهو المكان الذي قد تغادره أقدامنا لكن قلوبنا تظل فيه.
-أوليفر وندل هولمز
لطالما أخذتُ على خاطري ممن جعل منَ الهجرة حلماً و من وطنِه كابوساً إلا أني علمت أن الهجرة لا تطمِسُ الهوِّيةَ وَ لاَ الوطن يضمنُ لقاطِِنيه الحفاظَ عليه. فمن اغتربَ منكم في بلاد غيْرِه بإرادتِه، ليَحْرص على زرعِ ثمار حميدةٍ قد يُكتبُ حصادها يوماً في وطنِه. ومن كان مجبراً، فلَه في رسولنا عليه الصَّلاة و السلام الأُسوَة الحسنة حيث قال عندما خرج من مكّة المكرّمة: ‘ما أطيبَكِ من بلدٍ وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سَكَنتُ غيرَك’.
من جهة أخرى، ممن لم يَطبَع جوازَ هجرتِه فله أحدُ الأجْرانِ: أجرُ الصَّبرِ على الظالم أوْ أجرُ العملِ على نُصْرتِ المظلوم. ومن لم يجدْ مكانه في أيٍّ منهما ، فيا لَيتَ لوَطَنِيَّتِهم وطناً غيرَ أللذي اسْتوطَنَهُ هؤلاءِ…
سألَ سائلٌ أخاهُ: مَا أنا فاعل بحَظِّي العاثِر هذا؟
أجاب الأخ: هَاجِرْ! أنْتَ لستَ بِشَجرة.
ابتسمَ الأبُ قائلاً: كُنْ أنتَ الشَّجرةَ يَا بُني! إِنْ غُرِسَت امْتدَّت جُذورها، و إنْ نَمت شَمُخَ طُولها، و إنْ أثْمَرت نَفَعتْ غَيرها!