كيف هي الدنيا؟
هكذا الإنسان بفطرته مَجْبولٌ على حب أمه أي على حب دُنياه التي لا يزال يُهرول من ورائها منذ ولادته٠
يهرول من أجل جُرعة لبن من رحم أمه و ضمةِ صدر يملأها الحنان، ثم يكبر ليكون خلف دراسته و طموحاته، ليتطور هذا الأخير فيُسابقَ معه الزمن على الحصول على وظيفة الأحلام ثم يقول في نفسه هأ أنذا على خط الوصول لآخر السباق لِيُفاجَأ برغبةٍ جامحة لتكوين أسرة سعيدة مع الشريك المناسب و يبدأ بذلك رحلة الوصول مرة أخرى لعلها تنتهي مع هذه المحاولة الجديدة٠
هكذا الدنيا لا تنتهي و لا تنتهي معها رغباتُنا و لا طموحاتنا. فمن كان جَنيناً صار رضيعا ثم طفلا فشابٌّ يُصارعُ الشِّيبَ٠
هكذا الدنيا لا تَستقِّرُ على حالٍ و لا نحن نستقر معها. فمن كان منَّا غنيًّا إفْتَقرَ ومن صَحَّ هَرِمَ و من سَعِدَ حَزِنَ٠
هكذا الدنيا لمن بنا قصوراً و غَفلِ عن عُيوبها حتى أَتتْهُ صيحةُ شيخٍ قائلٍ: خرابُ القصورِ و لَوْ بعدَ حينٍ و موتُ صاحِبها و لَوْ بعدَ حينٍ٠
من منا لم تَغْرُب عليه ظُلمةُ ليل إلا و في خاطِرهِ هدف دُنيوِيٍّ يَصبو إلى تحقيقهِ، و لم تُشرِق عليه إشراقةُ شمسِ الصباحِ إلا و هو في أتَمِّ الإستعدادِ لمُواجهة عقباتِ يومٍ جديدٍ٠
كيف نوازن أهدافنا؟
يومٌ جديدٌ تكاد ساعاته الأربع و عشرون بكاملِ دقائِقها الألف و أربعُ مئة و أربعون لا تكفي حتى لنَفْسه فكيف لأهله و لربه، مصداقا لقوله صلى الله عليه و سلم : ” إنَّ لِرَبِّكَ عليكَ حقاً، ولِنَفْسِكَ عَليك حقاً، ولِأَهْلِك عليكَ حقاً، فَأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه “٠
ليس عيْباً على المرءِ أنْ يَمتلكَ آمالاً و أهدافا يسعى لتحقيقها و لا ذنبَ عليهِ بِرغبتهِ في عيش حياة كريمة، فَالغنى لم يكن يوما محرَّما و لا الفقرُ كان عيباً. اجعل لنفسك أهدافا طويلة الأمد، أهدافا لا تنتهي مع تحقيقها في الدار الدنيا، أهدافا يصل صداها إلى الدار الآخرة، أهدافا تغنيك عن شقاء الدارين، أهدافا تمنحك جنة الدارين معا حيث قال عز وجل: ” وَلمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ” ٠
- مَن مِنَّا يستطيعُ أنْ يُنْكِرَ حُبَّهُ لِدُنياه،
- مَن منَّا يستطيعُ العُزوفَ عن هَوى حياتِه،
- مَن منَّا يستطيعُ أن يكون ابنَ الآخرةِ و ليس ابنَ الدُّنيا.
حكمة سيدنا عيسى
عشْ في الدنيا كأنها جسرٌ تَعبرُ منه للوصولِ إلى ما هو أهَمُّ من الجِسرِ نفسِهِ. لا تَجعَلْ منه بقعةً للبناءِ العشوائي الغير قار فَيَصيرَ بذلك همّاً و غمّاً لكَ يزيغانك عن طريق الصواب و يصبوان بك إلى مشقة العصيان و الهلاك. بل اجْعلْهُ وسيلةً تعبُرها بمنطقِ تَعميرِ الآخرة فَتصلُحَ بذلك دنياكَ : اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي
هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا٠
عِشْ في الدنيا كأنك غريبٌ عن أهلها، غريبٌ عن من يسعى خلفَها مُتَنَاسِياً زَوالَها. عشْ فيها كأنك عابرُ سبيلٍ نحو وِجهةٍ دائمةٍ٠
عِشْ في الدنيا كأنها شجرةٌ مُخضرّةٌ مثمِرة تَستظلُّ تحت ظلِّها ثم تترُكها لآخرَ يأتي من بعدِكَ. فلا المُلوكَ مَلَكُوهَا و لا الفقراءُ عَمَّرُوهَا٠
عِشْ في الدنيا كأنها سفينةٌ لن يغرقَ من رَكِبها على قَدْرِها. ولا تكُن راكباً اتَّبعَ هوى من ظنُّوا أنهم قباطِنةُ السَّفينةِ٠
لا مفر لنا من العيش في هذه الدنيا بكامل أتراحها و أفراحها، بكامل شدتها و ليونتها. و لا نملك لأنفسها تفضيل رخائها على شقائها أو سهولتها على صعوبتها. ولكن لنا المفر من مكروهها و من حرامها، و نملك الاختيار بين الصواب و الخطأ، بين الطهر و الفساد مصداقا لقوله عز وجل: ” وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ”
هكذا الدنيا اعبروها و لا تعمروها. ليست مجرد عبرة من حياة سيدنا عيسى عليه السلام تمر علينا مرور الكرام بل منهج حياة نعيش عليه٠