بعيدًا عن كل شيء… نخلق مساحة آمنة نحبها وتحبنا، بدون أحكام، ولا مبررات. بدون انتظارات، ولا توقعات.
مساحة تعبر فيها عن أفكارك، وتُطلق فيها العنان لمشاعرك، كالطفل الصغير حين يلعب بلعبته المفضلة. هذه المساحة تبدأ من الاحتفاظ بما تحب، وتقدير الأشياء القريبة منك قبل أن تفكر بمشاركتها.
المساحة التي تحرس شعورك
لم تكن النية أن أكتب مقالا طويلا، فقط كنت سأشارك صورة عبر انستغرام مع الجملة التي استفتحت بها المقالة، إلا أني في لحظة تذكرت كم أن المساحة (الغرفة) التي أجلس فيها الآن، قريبة مني، وهي جزء مني، بكل تفاصيلها، بكل ما فيها… ويستحيل أن أسمح لشخص لا أقبل بطاقته أن يدخل ويجلس فيها.
لا توجد فيها أسرار، أو أشياء ثمينة أخاف عليها، أو أخاف أن يراها أحد ما… هي مسألة احترام! لم أجد المصطلح الأدق، إلا أنه الأصح! فعلا، احترام المساحة، احترام الشيء الذي تملكه.
وهذا ما أريد الحديث عنه، بعيدا عن غرفتي… الناس لا تقدر ما تملكه!
لعبة الطفولة، وأول درس في الملكية
دعنا نعود لفكرة الطفل الصغير، صاحب اللعبة، حين يرفض مشاركتها مع طفل آخر! فهذا، ليس لأنه لا يحبه، وإنما حبه للعبته أكبر، وتخلق لديه متعة تملك الشيء. (سيبقى عالقا فيها ما لم تنتهي في الوقت المحدد)
والأهل لا يستوعبون هذه المسألة، فتلاحظ أن أول شيء يقومون به، هو ترغيب الطفل على التنازل عن لعبته لطفل آخر!
ما هي نتيجة هذا السلوك تاليا على حياة الطفل؟
- العطاء الزائد
- العطاء في الوقت الخطأ
- العطاء للأشخاص الخطأ
من يعاني من هذه المشكلة، ليرجع بذاكرته للوراء قليلا، ويتذكر كيف تعامل مع ألعابه وأشياءه وهو طفل!
ومثل ما هو الحال مع الألعاب، يتكرر المبدأ في العبارات، كم من مرة سمعت شخصا يقول: ما لَدَي ليس ملكي؟ هنا في المغرب تتكرر هذه الجملة كثيرا (حاجْتي ماشي ديالي)، نعم، هي تُقال تعبيرا عن كرم الشخص وعطاءه، لكن، للأمانة: حاجتك أو أشياءك هي لك، ولا بد من احترامها.
كيف ذلك؟
ممتلكاتك ليست مجرد أدوات
احترام ممتلكاتك من أبسط شيء لأعقده ومن أرخصه لأغلاه، هو أن تعلم متى تحتفظ بها لنفسك، ومتى تقدمها في الزمكان المناسب، للشخص المناسب.
ليست كل الأشياء تعطى!
كنت ذات يوم في صالون تجميل، فجاء شاب من محل مجاور وطلب مقصا، فأعطته السيدة، سألتها: هل أعطيته المقص الذي تقصين به شعر زبائنك؟ فقالت نعم!
استغربت!
هذه أداة شخصية، تعملين بها، تستخدمينها شهورا مضت أو حتى سنوات، تؤدي عملها كيفما يجب، تعرفين كيف تمسكينها، والأداة بذاتها تعودت على أصابعك، تقصين بها شعر الزبونة ثم ينمو مجددا (ولله الحمد)، وتعود إليك لتقصيه مرة أخرى… وفي الأخير، تقدمينها لشخص آخر ليؤدي بها مهمة لا تعلمينها حتى!
قد يبدو لك أني ضخمت الأمر، والمسألة ليست مسألة خوف من حسد، أو سحر، أو عين! وإنما هي فهم واستيعاب أن هناك علاقة تنشأ ما بيننا وبين أشياءنا كلما طال الزمن، وهذه العلاقة تحتوي أفكارا ومشاعرا، وطاقة.
بين العطاء والاحتفاظ بما تحب
في بعض البيئات، تجد من الطبيعي أن يتبادل الأفراد أشياءهم: ملابس، أحذية، إكسسوارات، أواني طبخ… أنا لا أقول لا تساعد! يعني، هناك مناسبة لدى الجيران ويحتاجون شيئا قدِّمه بحب!
لكن، لا تعطي لباسا لديك معه ذكرى جميلة، لصديقة أنت بالأصل تشكين في نواياها تجاهك، أو صديقة كل أفكارها ومشاعرها هي شؤم في شؤم.
تخيلي أن ترتدي هذه الصديقة حذائك المفضل لمقابلة عمل، ثم تُرفض؟ كيف ستكون مشاعرها؟ أول شيء ستبدأ به هو الحذاء! لقد أتعبها، أتعبتْ نفسها بارتداء كعب عال وفي الأخير لم تُقبل في الوظيفة.
أعادت إليك الحذاء، وبعد فترة أردتِ ارتداءه لمناسبة سعيدة… ما هو آخر شيء في ذاكرة الحذاء؟ وفي ذاكرتك العاطفية أنت أيضا؟ هذا حذاء تم ارتداءه في مقابلة عمل فاشلة!
لا تعطي حاسبوك الذي درست فيه، وعملت عليه، لدرجة أنك أصبحت تشعر ببطاريته متى ستنطفئ دون انتظار إشعار منه، وحفظت لوحة المفاتيح بالغيب.
دولابك الصغير الذي تضع فيه مستلزماتك، ليكن خاصا بك، أنت من يعلم ما الذي يوجد بداخله، كن شاكرا له، وامتن لوجوده.
غرفتك الخاصة جدا، التي تبكي فيها أوقات الحزن، وتفرح فيها حين تسمع أو تعيش حدثا سعيدا، أو تستعد فيها بكامل أناقتك، أو حتى تنام فيها وترى أحلاما عظيمة، احتفظ فيها لنفسك، ليس واجبا أن تُدخل إليها كل من زارك!
كل هذا… ثم تنتظر أن تستمر أشياءك بذات الجودة! كثرة الأيادي تفسد الشيء.
مكتبة ممتلئة أم التغاضي عن وُسع الحياة
كنت أمتلك عشرات الكتب، وإن طلبت مني كتابا، سأشتري لك نسخة جديدة بدل أن أعطيك كتابي الخاص! أنا كنت متطرفة من جهة الكتب، كأني أقول في نفسي:
- سأحتاجها مستقبلا.
- قد لا يعيد لي كتابي.
- أليس من الجميل أن أقدمها لأبنائي؟
بعد فترة فهمت أن المعلومة المهمة من كل كتاب تظل في عقلي، وأنه لا حاجة لي باسترداد كتاب أعطيته، والأبناء (إلى أن يحين موعدهم سنفكر في ماذا سيقرؤون ههه).
كما أن تكديس الكتب وامتلاك مكتبة كبيرة، ما هي إلا تعطيل لقانون التوسع الذي يشترط المساحات الفارغة وهذا في كل جانب من جوانب حياتك!
الموضع هنا ليس حديثا عن قانون التوسع لأستفيض فيه، فقط أريد الإشارة إليه حتى لا تختلط علينا الأمور.
اخترت 6 إلى 9 كتب، هي المحببة والمفضلة لدي، وسأحتفظ بها دائما وأبدا إن شاء الله.
كيف اخترت هذه الكتب؟
- أعتبرها غيرت حياتي، وأطلع عليها باستمرار.
- تتغير نسخها من عام لعام، وبالتالي تبقى النسخ الأولى هي الأكثر أصلية.
- كانت هدية وأحببتها.
بين كل فترة وفترة أرسل لأصدقائي أسماء كتب، ليختاروا ما يريدونه ثم أرسله لهم، وهكذا أشعر بأني منحت لنفسي فرصة استقبال كتب جديدة بعد التخلص من القديمة… وهذا جزء من تطبيقات التوسع.
لكن، ماذا لو طلب مني شخص كتابا من كتبي المفضلة؟ لن أعطيه! إن توفرت نسخة جديدة سأشتريها لك بكل سرور، لكن ليس كتابي الذي أمسكته وغُصت فيه وجعلني أحاور أفكاري.
هذا لا يعني أني لا أحبك، لا، هي مسألة عُمق.
قد يكون صديقك، أو زوجك، أو أخوك، أو أختك… أشخاص قريبون منك، تبادلهم مشاعر صادقة وجميلة، إلا أنك لم تصل معهم للعمق!
دفترٌ لا يخذل صاحبه
لا يمكن أن أقارن علاقتي بدفاتري، مع علاقتي بصديقة أو قريب! أكتب في دفتري كل ما أريده، أعبر عن جميع الأفكار والمشاعر. بما فيها من حب، وكراهية، وشجاعة، وخوف، وعار، وتأنيب، وحوارات عن العمل، والأموال، والتجرد من كل هذا، وما بعد الموت، وكيف أنظر لما هو صحيح وما هو خاطئ…
كل هذا، أكتبه ولا أحكام ستقال لي أو تُقال عني… ثم تسمع شخصا يتمسخر من عمق الآخرين مع أشيائهم.
كإشارة سريعة، لا بد أنك سمعت عن فوائد التدوين؟ أو الـ Journaling، أيا كان موضعك في التطوير الشخصي أو المهني، سيكون أحد ما نصحك بالكتابة والتدوين.
هل تعتقد أنك لمجرد أن تكتب لأول مرة ستُحصّل هذه الفوائد؟ لا، مستحيل، لأن المسألة وأعيد تكرارها هي مسألة عمق، أن تتعمق مع التدوين كفعل، ومع دفترك كشيء، وليس أن تتعمق مع الشخص الذي نصحك ولو كان أنجحهم. (إقرأها مجددا)
احتفظ بما تحبه لنفسك، وفي لحظة العطاء قدّمه بحب، دون انتظار.
- لديك دفترك الخاص، أغلق عليه في مكان ما.
- لديك حاسوب للعمل، لا تسمح باللعب عليه.
- لدى طفلك لعبة مفضلة؟ دعه يستمتع بها.
- لديك قلم حظ؟ لا تمنحه لأحد.
ومن الدفاتر التي لا تخذلك، إلى الأشخاص الذين يبدون ساذجين لكن يملكون سرًّا عميقًا…
وما دمت ذكرت كلمة حظ، دعني استفيض قليلا…
هل تعلم من هو الشخص المحظوظ؟
ذلك الشخص الذي تجده جالسا في زاوية، لا يجادل، يبدو ساذجا، ضعيفا، وغير عميق، لا تعرف هل هو فقير، أو ثري، يستغبي ولا تبدو عليه سمات الذكاء… هذا الشخص بالذات، لن يتحيز من أجل جهة على جهة أخرى، ولن يقاتل أحد ضد أحد، ولكنه إن أحبك سيقول أنه يحبك!
لماذا؟
لأنه استمد هذه القدرة من عمقه مع الأشياء أكثر من الأشخاص.
البشر لا يعبرون عن حبهم، وكل طرف ينتظر من الطرف الآخر أن يبادر بالتعبير، فتبقى الدوامة هنا.
إلا أنك، حين تنتقل من البحث عن العمق مع الشخص لعمق الشيء، تتعلم الحب، وتتدرب عليه مع شيء تملكه، حتى ينتقل لشخص قريب منك.
لهذا، القاعدة تقول: من يعيش قصة حب حقيقية، يحتفظ بها لنفسه.
ليس لأنه خائف، ليس لأنه يتهرب، لا! الاحتفاظ بالشيء، يعني أنك تقدره، وما تقدِّرُه يُقدِّرك. وفي لحظة العطاء قدّم ما هو فائض لديك ولن تكون عينك لا عليه، ولا على مقابله.
هذه أفكاري، قد تكون صحيحة أو خاطئة، وقد أغيرها بعد فترة! وحتى لو حصل، فتذكر مني شيئا واحدا، الاحتفاظ بما تحب هو سرّ العمق مع الأشياء قبل الأشخاص.