الأحكام: كيف تعيش وحدة الأضداد؟

أنا الأول؛ أنت الثاني؛ أنا جميلة؛ أنت قبيح؛ أنا محظوظة؛ أنت منحوس؛ أنا غنية؛ أنت فقير؛ أنا مجتهدة؛ أنت كسول؛ هذا أسود وذلك أبيض… أكيد أنك في يوم ما وضعت نفسك ما بين أنا المتكلم أو أنت المخاطب.

  • هل لي أن أسألك كيف وضعت هذا التصنيف؟
  • كيف علمت مثلا أنك مجتهد والآخر كسول؟
  • أو كيف اعتبرت نفسك فقيرا و الآخر غنيا؟

كل هذه المفردات، الجمال و القبح؛ الغنى و الفقر؛ الاجتهاد و الكسل… كل هذه التصنيفات التي لا تنتهي جعلتنا نعيش في دائرة مغلقة يتحكم فيها حكمنا على الآخر و إعرابه كيفما نشاء.

هل سألت نفسك مثلا أين جاء الجمال؟ أو من وضع مقياس الجمال؟ و كيف ظهر القبح كضد له؟
إن افتكرت الآن حديث “إن الله جميل يحب الجمال“، فما دام الله جميل؛ فما محل القبح في حياتنا؟
و كيف امتلكنا القدرة على وصف أحد المخلوقات حية كانت أو جمادا بصفة القبح؟

العودة إلى ما قبل بداية الأحكام

ذات يوم وأنا برفقة صديقاتي؛ أخذت إحداهن الهاتف وطلبت مني أن آخذ صورة جماعية لنا – سيلفي -.
فقلت لها يدي: “قصيرة و الصورة لن تظهر كاملة”.
فأجابتني سيدة معنا: “أليست يدك هذه متماثلة مع جسدك و كافية لك في قضاء حاجياتك اليومية؟”
صراحة؛ بيني و بينك، كنت كأني تلقيت صفعة. لأني ما دمت أقول أن يدي قصيرة كأني أرى فيها عيبا و أن ما أريده هو يد طويلة. فتخيلت في لحظتها ماذا سيكون شعوري إن كانت يدي طويلة في جسدي هذا ! لك أن تتكهن شعوري أثناء هذا التخيل 😅

القصر و الطول، مضادات نحن وضعناها لأنفسنا لتذكرنا ربما بشيء لا يعجبنا. و الأصح أنه لا توجد يد قصيرة وأخرى طويلة، إنها يدي المماثلة لجسدي!

مقالتي هذه بدأتها بالحديث الداخلي الذي يملأ أفكارنا بمقارنات خارجية مع الآخرين، و من الأفضل دائما أن تبدأ بتحسين الداخل قبل الخارج. لكن اليوم أريدك أن تنتقل معي إلى مستوى أعلى، إلى مستوى حيث ما قبل البداية.
انتبه جيدا البداية الصحيحة هي دائما ما قبل البداية. أعلى المستويات؛ الخطوة الاولى؛ الرقم صفر! –
المفردات التي كتبتها في الفقرة الأولى ليست مجرد كلمات نُحدِّث بها ذواتنا أو نقارن بها أنفسنا و إنما هي أيضا الأحكام التي نطلقها على الآخرين.

كم مرة قلت هذا الفتى ذكي؛ هذه الفتاة جميلة؛ انظر هناك إلى ذلك الطويل هل رأيت زوجته؟! إنها قصيرة و غير متعلمة أيضا و ابنهما كسول!
لا ننكر أنا و أنت أننا أطلقنا هذه الأحكام أو غيرها على عشرات الأشخاص. مع هذا فباب المغفرة مفتوح دائما.

كيف تعامل رسول الله مع اطلاق الأحكام ؟

حديث أمنا عائشة مع رسول الله.
قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حسبُك من صفيةَ كذا وكذا, قال: غيرُ مُسَدِّدٍ تعني قصيرةً. فقال: لقد قلتِ كلِمَةً لو مُزِجت بماءِ البحرِ لمزجته .قالت: وحكيْتُ له إنسانًا , فقال: ما أُحِبُّ أني حَكيْتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا.
هل استوعبت كيف ربط الرسول وصف – القصيرة – بتغيير طبيعة البحر بكامله؟ 5 أحرف فقط قادرة على تغيير بحر لا ينتهي.
فما بالك بالتغييرات التي تفعلها هذه الأحرف في حياتنا ظاهرة أو باطنة؟

الانفتاح على الاضداد التي تبدو متناقضة

سواء الصفة أو الحكم الذي ربطته بشخص معين هو فعلا موصوف به أو لا.
مثلا تقول أن زميلك في القسم – كسول – و أنت رأيت علاماته الدراسية كلها تحت 10. و سقط في عدة فصول من قبل، و لست الوحيد الذي تنعته بالكسول بل حتى أستاذك و حتى مدير مؤسستك. يعني لا أحد حولك قادر على إنكار صفة الكسل عن هذا التلميذ بالدليل المنطقي.
انتبه جيدا حين تصف شخص بصفة محددة فقد أسقطت عنه ضد هذه الصفة –
يعني أن تصف زميلك بالكسل يمثل إقرارا بعدم امتلاكه لصفة الاجتهاد، فهل هذا منطقي؟

خطوة خطوة، أنت تقول أن هذا التلميذ كسول لأنه يفشل في اختباراته الدراسية. لكن هل رافقته خارج المدرسة؟ هل رأيت مهاراته الأخرى غير الدراسية؟
كَسله في الدراسة لايعني ملازمته لهذه الصفة %100 فقد يكون مجتهدا في (أخلاقه؛ في هواياته؛ في علاقاته…).
هل وصلتك الرسالة؟

  • السبب وراء قدرتك على رؤية الكسل هو وجود الاجتهاد!

لنضرب مثالا عكسيا. أنا أرى شخصا يركب سيارة فارهة و يسكن في بيت فخم، فأقول هذا إنسان غني و الظاهر أنه فعلا غني. لكني أنا في هذه اللحظة أسقطت عنه صفة الفقر، قد تستغرب الأمر لكني أريدك أن تفتح ذهنك معي.

بداية كيف وضعت معيار الغنى؟ لماذا قلت أن السيارة الفارهة و البيت الفخم دليل على الغنى؟
هذا الشخص الغني، غني ربما في مجال عمله؛ غني بماله؛ غني بعلمه و شهاداته… لكن في نفس الوقت قد يكون فقيرا في علاقاته؛ إلى الآن لم يجد الغنى في كل ارتباطاته الاجتماعية.
انتبه جيدا في هذا المثال لا أقصد أن كل غني لا بد أن يفتقر لشيء ما. بالعكس فالله يريد أن يتم نعمته علينا. –

  • السبب وراء قدرتك على رؤية الغنى هو وجود الفقر!
  • التلميذ الكسول بداخله أيضا صفة الاجتهاد و أن لم تظهر لك.
  • الرجل الغني بداخله أيضا صفة الفقر و إن لم تظهر لك.

كل منا يحمل بداخله الصفة ونقيضها. بداخلنا الجمال و القبح؛ الغنى و الفقر؛ الاجتهاد و الكسل…

لماذا قد تعيش المقاومة؟

حين تطلق الأحكام على الناس فأنت لا تحددهم بحكمك. بل أنت تحدد نفسك كشخص يحتاج إلى الحكم و هذا يجعلك مقاوما لحالة الحب اللامشروط.
حين تطلق الأحكام على الناس، فكأنك ترى نفسك استثنائيا و تستحق تفضيلا استثنائيا. و هذا غير صائب لأن ما فَضَّلت به نفسك موجود بداخلهم لكنك رأيت ضده فقط.

كيف استحق المحبة الإلهية؟

ماذا لو أدركت أن هذه الأضداد كلها جزء من الوحدة الكاملة؟

أن تدرك أن الحياة موحدة، و أن تتعايش مع التضاد الظاهر كأنه فكرة ابتدعها العقل البشري. أن تجمع هذه الأضداد من دون أن يلغي بعضها البعض، النور و الظلام؛ اليسر و العسر؛ الفضيلة و الخطيئة… مجرد أحكام و أنت بحاجة إلى كل منها لتحديد الآخر.

قرأت يوما: ” من المؤكد أن النرجس لا يفكر فيما إذا كان الأرجوان أجمل أو أقبح منه ولا يدرك الفأر و الصقر التضاد الذي ندعوه الحياة و الموت، و لا تعرف الأشجار و الأزهار والحيوانات أي شيء عن القبح و الجمال. انها تعيش في انسجام و لا تصدر الأحكام ” .
فلم تكلف نفسك عناد إطلاق الأحكام على الآخرين؟

هناك أشخاص جمعوا أغلب ما نصطلح عليه – بالصفات الحميدة – ليس لأنهم مختلفون عنا، أو أنهم خلقوا مما لم نخلق منه نحن! و لكن لأنهم تعايشوا مع مبدأ الأضداد في كل شيء و تحرروا من الأفكار التي تملي عليهم كيف يكون هو و كيف يجب أن يكون الآخر.

  • أنت لا تريد أن تلعب دور الإله في الأرض و تتجاوز: إن الحكم إلا لله، أليس كذلك؟
الأحكام
التعليقات (3)
شارك بتعليقك